الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالعبادة هي العبودية، وهي الدينونة، وهي الاتباع والطاعة، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية.وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية. ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان؛ وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية؛ دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية.. أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه..كذلك ينحسر معنى العبادة في الجاهلية، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر. ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده، فقد عبدوا الله وحده.. بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد. وعبد تفيد ابتداء دان وخضع. وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها.والجاهلية ليست فترة من الزمان، ولا مرحلة من المراحل. إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو، معنى العبادة. هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين، ويؤدون الشعائر لله، بينما أربابهم غير الله، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما يشرعه لهم، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي.ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله: {ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} اعبدوه ولا تشركوا به شيئًا. فإن مرجعكم إليه، وحسابكم عنده، وهو يجزي المؤمنين والكافرين: {إليه مرجعكم جميعًا وعد الله حقًا}.إليه وحده لا للشركاء والشفعاء.وقد وعد فلا خلف ولا تخلف، فالبعث هو تتمة الخلق: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}.فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط...}.والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة. إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة، أو من عقابيل تعقبها- إلا لذائذ الروح الخاصلة وهذه قلما تخلص لبشر- ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصًا منها وحائلًا دون كمالها. فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء.. وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل. فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم، إلى أعلى مراتب البشرية.فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه، وهذا يقتضي- حسب السنة التي لا تتخلف- ألا يصلوا إلى مرتبة الكامل، لأنهم جانبوا قانون الكمال؛ وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية. هذا يلقاه مرضًا وضعفًا، وأولئك يلقونه ترديًا وانتكاسًا، وغصصًا بلا لذائذ- في مقابل اللذائذ بلا غصص.{والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}.وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء.. يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض:{هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون}.فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون، ننساهما لطول الألفة، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار، وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب، وأول مطلع قمر وأول مغيب؟هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي، والتأمل الذي لم يبلده التكرار، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم:{هو الذي جعل الشمس ضياء}.فيها اشتعال.{والقمر نورًا}.فيه إنارة.{وقدره منازل}.ينزل في كل ليلة منزلًا يكون فيه على هيئة خاصة، كما هو مشهود في القمر، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون.{لتعلموا عدد السنين والحساب}.وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس.هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟كلا ما يكون كل هذا النظام، وكل هذا التناسق، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة. ما يكون هذا كله عبثًا ولا باطلًا ولا مصادفة عابرة:{ما خلق الله ذلك إلا بالحق}.الحق قوامه. الحق أداته. والحق غايته. والحق ثابت راجح راسخ. وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة:{يفصل الآيات لقوم يعلمون}.فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر.ومن خلق السماوات والأرض، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب:{إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}.واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. ويشمل كذلك اختلافهما طولًا وقصرًا، وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس. إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب. وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الأستقبال والاستجابة..{وما خلق الله في السماوات والأرض}.ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب {وما خلق الله في السماوات والأرض} ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس، والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال. لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش.. ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة، ثم يتركه ليتملاه.. إن في ذلك كله: {لآيات لقوم يتقون}.تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص. وجدان التقوى. الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع.هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة!ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء!ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني- بأسلوبه هذا- هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعًا- وهذه ميزتها- فإن وجود هذا الكون ذاته أولًا.ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة؛ وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر- حتى قبل أن يعرفها البشر- ثانيًا.. إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة..والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلًا معقولًا. ولا يزيدون على أن يقولوا: إن الكون وجد هكذا بقوانينه؛ وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل؛ ووجوده يتضمن قوانينه! فإن كان هذا كلامًا مفهومًا- أو معقولًا- فذاك!ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا؛ لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله! ثم أصبح يقال هنا وهناك، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله. ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله، ثم يماري في ربوبيته، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة. فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته. ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم؛ فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع.. فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء!ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى إسلامية يروَّج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم العلم والعلمية! فيقال: إن الغيبية لا مكان لها في الأنظمة العلمية. ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية..! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب. لا يخشون الله إنما يخشون الناس، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال!وما تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة. تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك. والفطرة البشرية بجملتها- قلبًا وعقلًا وحسًا ووجدانًا- تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها. وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها. يخاطبها من أقصر طريق، ومن أوسع طريق وأعمق طريق!!!والذين يرون كل هذا، ثم لا يتوقعون لقاء الله؛ ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود؛ والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلبًا يتدبر، ولا عقلًا يتفكر.هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون. إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم:{إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقًا مدبرًا، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام، يتم فيها تحقيق القسط والعدل؛ كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا، ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا، بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصًا، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر؛ وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم. والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق. إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائمًا إلى هذه الأرض وما عليها! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب، وترفع الحس، وتحفز إلى التطلع والكمال..{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}.وبئس المأوى وبئس المصير!وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات. الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان، تحقيقًا لأمر الله بعمل الصالحات، وانتظارًا للآخرة الطيبة.. وطريقها هو الصالحات.. هؤلاء.{يهديهم ربهم بإيمانهم}.يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه.. هؤلاء يدخلون الجنة.
|